شتيوي الغيثي
ربما يثير عنوان المقال الكثير من الذين تربوا على الذهنية الذكورية التي لا تؤمن بمسمى الحب، إلا أنه نوع من "سواليف" مجالس لا ترقى إلى مستوى "سوالف المرجلة" أو دراما تلفزيونية تنتهي بانتهاء الحلقة أو انتهاء المسلسل كحد أقصى حتى لدى الكثير من النساء في أوساطهن فضلا عن مجتمع الرجال أو أنه من قبيل "العيب" الذي تكرست فيه أفواه الكثير من الناس دون أن يعوا حدود العيب أو حدود الحرام.
ما ساقني إلى التفكير في هذا المقال ثلاثة أشياء: أولها المتابعة الكبيرة من قبل المجتمع خاصة الفتيات للمسلسلات التركية التي تعرض على إحدى القنوات الفضائية إلى درجة أن الكثير من الفتيات توقف الكثير من أعمالهن اليومية ليقمن بمتابعة المسلسل. ثانيها حالة الغزل المتفشية لدى الفتيان والفتيات حتى الصغار الذين في سن المراهقة إلى الوضع الذي جعلك يمكن أن تشاهد مشهداً أو مشهدين بشكل يومي تقريباً في الكثير من المواقع العامة، إلى درجة الوقاحة أحيانا من قبل الكثير من الشباب، والتحرش العلني الذي يمارسونه تجاه الفتيات، والغريب أن بعض الفتيات تتقبل ذلك بكل سعة صدر مما يعني أن الوضع أصبح طبيعياً. هل أصبح شبابنا رومانسيين فجأة..؟ لا أعتقد ذلك؛ بل وأجزم أنه ليس من السهولة أن يصبح شبابنا رومانسيين إلى هذا الحد، بسبب حالة الجفاف العاطفي المتجذر في نفوسنا. ثالث الأسباب في التفكير حول الحب في المجتمع الذكوري: نسبة الزواج التقليدي الذي يمارسه آلاف المتزوجين كل ليلة حتى لم يعد يقتصر الوقت على فترة الإجازات كما كنا نذكر قبيل سنوات من "زحمة الأعراس"، وكل هؤلاء البائسين من متزوجين أو متزوجات لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا التعامل مع الحياة الزوجية بشكلها الطبيعي بسبب كمية المعوقات الاجتماعية التي تفرض عليهم التعامل مع الحياة الزوجية بالجفاف من أول أيام الزواج، هذا فضلاً عن أن يستطيع أن يرى خطيبته أو تراه قبل ليلة الدخلة، وحتى الآن في بعض المناطق وعند الكثير من المجتمع السعودي لا يمكن أن يرى الواحد زوجته عن طريق ما يسمى "النظرة الشرعية" كما تم تأصيلها فقهياً من قبل بعض المشايخ التقليديين مع اعتبار كل المحاذير الشرعية والاجتماعية أثناء ممارسة الحق الشرعي في هذه النظرة.
هذه الأسباب الثلاثة على بساطة ما تطرحه من ظاهرة إلا أنها يمكن أن تُكوّن قاعدة أساسية لسؤال غياب الحب في مجتمعاتنا، وهي مجتمعات ذكورية الطابع في قيمها العليا. غياب الحب جعل آلاف الفتيات يتابعن المسلسلات التركية خاصة أنها ثقافة تتقاطع مع الثقافة العربية في بعض جوانبها، وحالة الهياج الغزلي بين الفتيان والفتيات توحي بأن هناك فراغاً عاطفيا من قبل الفتيات بالذات تحاول فيه الفتاة أن تضع ولو قليلا في جعبة العاطفة مما يمكن أن تسميه حبا، ولذا استغلها الفتيان ليضعوا في هذه الجعبة ما يريدون، والزواج التقليدي ينم عن غياب مطلق للعاطفة بين الزوجين يتمثل في برود الحياة الزوجية بعد فترة أشهر بسيطة، أو حالات طلاق في الأخير، وهي نسبة أصبحت أعلى بكثير من ذي قبل كان أحد أسبابها في رأيي، وليس السبب الوحيد طبعاً، هو الزواج التقليدي.
الحب في المجتمع الذكوري مدان دائماً. هو مدان من قبل الرجل كما هو مدان من قبل المرأة كذلك؛ خاصة تلك التي تتماها مع العقل الذكوري التقليدي في قيمه وعاداته، مع أن المرأة كان مفترضا فيها أنها أكثر من تتفهم حالة الحب لأنها هي الأقدر على الإخلاص متى ما تحركت عواطفها تجاه شخص ما. المرأة تتفهم المشاعر التي تتحرك في المرأة الأخرى لكن أن تكون المرأة ضد الحب فهذا وضع غير طبيعي حتى لدى الكثير من الفتيات العاشقات، وهذا يفسر بعض حالات النساء التي ترفض فيها العاشقة أن يكون الرجل ضعيفاً، وتحبه مطلق الحب متى ما كان ذكورياً في تفكيره أو تصرفاته حتى لو كان عذابها من وراء هذا الحب الذكوري. أما عند الرجال فإن الحب يعتبر ضعفاً في الرجل حتى ولو كان صادقاً في حبه هذا، ولذلك فإنه حتى من الناحية الأدبية والتاريخية كانت القصائد والحكايات التاريخية تنسجم أكثر في حالات البطولة أكثر من حالات الحب، ومن هنا أصبحت فحولة الشاعر تقاس بمدى اقترابه أو ابتعاده من قصائد البطولات أو الفخر والهجاء، في حين يأتي الغزل في مراتب متأخرة في تصنيف فحولة الشاعر وإذا كانت الحكاية حول الغزل، فإنها تصبح حكاية أقرب إلى التندر منها إلى الحقيقة كما لدى قيس بن الملوح (مجنون ليلى)، كما أن حكايات الغزل في الأدب العربي كانت تقبل أكثر إذا كان الرجل هو الأقدر على الانتصار كما لدى بعض قصائد امرئ القيس مثلاً، على أن القصائد الأكثر شهرة لديه هي التي كان يطالب فيها استرجاع ملك أبيه، وباستثناء قبول حب عنترة بن شداد لعبلة إلا أنه في رأيي حب جاء لصالح الفارس قبل أن يكون لصالح العاشق حتى لدى عنترة نفسه، إذ إنه أقرب إلى الكمال الفروسي، أو إنه كان أقرب إلى رفض العنصرية والطبقية من خلال محاولته حب عبلة أو الاقتران بها زوجة يضعه هذا الزواج في مصاف رجال القبيلة المحترمين، وحتى لدى نزار قباني نفسه (شاعر المرأة) كانت القصائد الأكثر شهرة هي القصائد التي كان فيها مزاج الحب مركباً على الذائقة العربية، وهي الذائقة التي ترفض الحب الضعيف أو الحب الصادق والمخلص.
الحب حالة شعورية جميلة لا يعرفها الكثير من أبنائنا كونهم لم يتعودوا أن يحبوا (بكسر الحاء) أو يحبوا (بفتح الحاء)، ومن هنا كانت غالب حالات الحب صدمات نفسية يقوم بها الرجل ضد المرأة كونه (يأخذ حاجته ويمشي) كما هو التعبير الدارج لدينا، كما أن رفض قيمة الحب من المجتمع تجعل غالبية الرجال لا يتعاملون مع الحب إلا كونه جنساً فقط، وحتى لو كان الحب صادقاً من قبل الطرفين إلا أنه لا يمكن أن يكون حقيقياً في وضع غير طبيعي يجرم الحب ويجعله من التابوهات المحرمة في المجتمع، ومن هنا فإنه وبسبب قلة فرص الحب ينقلب هذا الوضع إلى هياج غير طبيعي لممارسة الجنس بين الطرفين.
إن ما علينا كمجتمع هو إعادة الرؤية في علاقة الرجل بالمرأة من جديد. علاقة الرجل بالإنسانة وليس فقط كونها امرأة تابعة للرجل حتى في قصص الحب.
* نقلا عن صحيفة "الوطن" السعودية